المقالات »

الكيمياء تصنع التاريخ

المحاضرة التي ألقيت في مقر جمعية : تجمع أمل سورية / أضنة
20 / 08 / 2016

الكيمياء تصنع التاريخ

طارق إسماعيل كاخيا
الموجه التربوي لمادة الكيمياء في المدارس السورية في مدينة أضنة

مدخل :
عندما نذكر كلمة تاريخ أو ندرس مادة التاريخ يتبادر فوراً إلى الذهن تاريخ الدول والحكومات والزعماء , ونغفل تاريخ الحضارات والعادات والسلوك والأخلاق والديانات والصناعات والتجارة والحروب والغزوات والهجرات .
ونعني نحن التاريخ في هذه المحاضرة بكل هذه المعاني

فجـــــر الكيميـــــاء :
يصعب علينا ، والكيمياء تمثل جانباً من حياتنا اليومية ، أن نعتقد أنه هناك وقت لم تكن للكيمياء فيه وجود . فمنذ صعود الجنس البشري نحو المدنية كانت الكيمياء إحدى وسائله ـ منذ أن لاحظ الإنسان البدائي عجائب النار وحاول أن يتحكم فيها وأن يستخدمها في حاجاته. لأن الاحتراق ما هو إلا تفاعل كيميائي يمر الخشبـ خلاله في عملية أكسدة بمساعدة الأوكسجين .
ومن هذه البداية البسيطة نما سريعاً اعتماد الإنسان على الكيمياء التي تستهدف تحويل مادة أو أكثر إلى مواد أخرى . ولقد تعلم الإنسان بالصدفة أحياناً , وعن قصد أحياناً أخرى . كيف يمكنه أن يحول مادة إلى مواد أخرى وأن يستخدمها في أشياء تساعده في حياته اليومية وتمده بالراحة بل والرفاهية
وانحصرت الكيمياء العملية لدى الإنسان القديم في ميادين ثلاثة : التعدين – وصناعة الزجاج – وصناعة الأواني الفخارية . وإلى حد أقل في صناعة الأصباغ النباتية التي استخدموها في تلوين أقمشتهم لمدة تعود إلى عدة آلاف من السنين قبل الميلاد . ولقد اكتشف القدماء عدداً محدوداً من الأدوية من النباتات والأعشاب لعدد متنوع من الأمراض البسيطة .
وفي نفس الوقت الذي اكتشف فيه الإنسان التعدين ومعدن البرونز وأصبح المعدن الجديد ـ الأصلب من النحاس ـ ذو فوائد واسعة الانتشار خاصة في صنع الأسلحة . وبذلك انتقلت الحضارة إلى العصر البرونزي . وسرعان ما تعلم الكيميائيون أيضاً فن صهر خامات الحديد وتحويل هذه الخامات إلى معادن جليلة الفائدة .
وربما قبل ذلك اكتشف أيضاً أنه يمكنه صنع الزجاج من الرمل والرماد ، ومع أنه لا يمكننا الجزم بالتاريخ الذي ابتدأ فيه صنع الزجاج إلا أن علماء الآثار أثبتوا أن صناعة الزجاج وصلت إلى درجة ملحوظة من التقدم منذ 4000 سنة قبل الميلاد . وتدعي أسطورة إغريقية قديمة أن اكتشاف الزجاج كان بالصدفة المحضة . فتقول الأسطورة أن أسطولاً تجارياً محملاً بالنطرون رسا على شاطئ رملي أثناء إحدى رحلاته في البحر الأبيض المتوسط ونزل البحارة إلى الشاطئ واستعدوا لتحضير طعامهم فأشعلوا ناراً على الشاطئ ، غير أنهم لاحظوا عدم وجود حجارة يضعون أوانيهم عليها فوق النار لطبخ الطعام . فعاد بعضهم إلى السفن وأحضروا كتلاً من النطرون استخدموها بدل الحجارة . وما أن ازدادت الحرارة حتى لاحظوا باستغراب شديد سائلاً رائقاً شفافاً ينساب من بين النيران . وعندما برد السائل أصبح مادة صلبة وأمكنهم الرؤية من خلاله .
ويختفي أيضاً أصل صناعة الفخار والخزف وفن الصباغة في غياهب التاريخ . ولكن في هذين المجالين بقيت بعض الآثار التي تدل على مواهب مذهلة حقاً في الحضارات الأولى في الصين والهند ومصر القديمة وبلاد الرافدين ، في تصميم الأدوات الفخارية بطلاءات زجاجية جميلة الألوان وصباغة الكتان والحرير .
– لمـحة تاريخيـة
نشأت الكيمياء أول ما نشأت في مصر الفرعونية ولكنها لم تكن علماً قائماً بذاته بالمعنى الذي نعرفه للعلوم في العصر الحديث , بل كانت إلى حد ما صنعة فنية تقوم على الخبرة والمران الطويل . وقد تعددت الصناعات التي قامت في مصر القديمة من تحنيط الموتى وصناعة التعدين والصباغة والزجاج وتحضير الأدوية وتحضير الزيوت والدهون ومواد الزينة والعطور , وكان يزاول هذه المهن أخصائيون من الكهنة بطريقة سرية يكتمون أمرها على العامة
ثم جاء دور جامعة الإسكندرية القديمة في العناية بشتى نواحي الثقافة , مما أدى إلى دخول علم الكيمياء طورا جديدا شيمته الأساسية محاولات مستميتة بفهم وتفسير الظواهر الطبيعية وعمليات الصنعة الكيميائية , وكان من نتائج ذلك ظهور فكرة إمكانية تحويل المادة من حالة لأخرى وكذا إمكانية تحويل العناصر بعضها إلى بعض , ومن ثم كان القول بإمكانية تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة وبخاصة الذهب مقبولاً . إلا أن هذا التحويل كان من الوجهة العلمية تحولاً ظاهرياً لا يمس ذرة المعدن كما دلت على ذلك كتابات الأقدمين ووصفات تجاربهم كما تشير إليه نصوص أوراق البردي . ومع ذلك فقد شغل بهذه القضية كثير من العلماء والفلاسفة وغيرهم حتى عصر النهضة في أوروبا.
وقد اعتنى المسلمون منذ عصر بني أمية بنقل العلوم اليونانية والسريانية والهندية والاستفادة منها وتطورها وكان أول من أقدم على ذلك خالد بن يزيد بن معاوية إذ نقل إليه أحد رجال الصنعة المصريين بعض ما كتب في أصول الصنعة الكيميائية , واعتزل الخلافة إلى مروان بن الحكم , وأقام مخبره في مدينة حمص إلى جانب سكنه .
خذ مثالاً على ذلك : عندما أراد الخليفة أبو جعفر المنصور بناء بغداد , قام المهندسون والكيميائيون بتخطيط أرض المدينة بالقار ثم أشعلوه , ووقف الخليفة على مكان بعيد عال ينظر على ما سيؤول عليه شكل المدينة بعد البناء ولما أعجبه الشكل , وضع حجر الأساس لبناء هذه المدينة العظيمة التي كان لها دور كبير في بناء الحضارة العربية الإسلامية , بل قل الحضارة العالمية على مدى الأجيال والأزمان .
ومما يؤيد هذا المعنى قول الشاعر أيضاً الذي علم أنه من غير الممكن تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن ثمينة حيث قال :
أعيا الفلاسفة الماضين في الحقب أن يستخلصوا ذهباً إلا من الذهب
أو يصنعوا فضة بيضـاء خالصة إلا من الفضة المعروفـة النسـب
فقـل لطالبها من غيـر معدنهـا ضيّعت عمرك في التنكيد والنصب
وهؤلاء الباحثين عن الذهب والفضة وعن أكسير الحياة وطلاب الفضة من غير معدنها , وإن كانوا قد ضيعوا أعمارهم في التنكيد والنصب على حدّ قول الشاعر , إلا أنهم في بحثهم قد توصلوا إلى معرفة الكثير من حقائق العلم وأصول الصناعة , وتحضير العديد من المواد الكيميائية الهامة كالأحماض والقلويات والأملاح والأدوية الأساسية التي لا نزال ندين بفضلهم علينا بها .
ومن الممكن أن نقول إنه بانتهاء القرن الثالث عشر الميلادي انتهى ذلك التأثير العميق الذي كانت تؤثره المصنفات والعلوم العربية ومن ثم انتهى ذلك المقام العالمي للعلم العربي , الذي نجح في تحقيق النهضة الأولى عند شعوب الحضارة الأوربية الحديثة عندما سرق الصليبين المخطوطات العربية منذ الحروب الصليبية وحتى اليوم . فمعظم هذه الكتب موجودة الآن في متاحف وجامعات برلين ولندن وباريز وروما وأثينا ومدريد , وغيرها من العواصم الغربية . وقام العديد من علماء الغرب مثل بركلان وألدومي بوضع فهارس لها .


تاريخ المقالة:

مصنفة في:

, , ,