نحن الآن في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب , شهر الذكرى العظيمة في تاريخ الإسلام , ذكرى إسراء سيد الرسل محمد بن عبد الله ﷺ ومعراجه إلى السموات العلا . والذي يبين الله سبحانه وتعالى فيها أنه إذا انقطعت أسباب الأرض عن نصرة وتأييد المسلم ، فهناك أسباب السماء . إذا لم تعد للمؤمن دار تؤويه وعشيرة تنصره وضاقت عليه الأرض بما رحبت فهناك الدار الآخرة ، وهناك الجند المجندة من الملائكة تنصره وتؤيده بإذنٍ من ربه .
فقد رسول الله ﷺ النصير والمؤنس عمه وزوجته , وضاقت عليه الأرض بما رحبت , فاجتباه الله إليه في ليلة الإسراء والمعراج وأراه من آياته الكبرى في السموات والأرض وما ذلك إلا تسلية له ﷺ . لأن الرسول ﷺ لم يلاق الهوان والعذاب إلا بعد وفاتهما حيث اشتد أذى قريش له بعد فقدهما .
أما زوجته خديجة رضوان الله عليها فقد كانت تتلقاه في البيت بصدر حنون وقلب شفيق وتسليّه فتزيل عن نفسه المجهدة كثيراً من الهم ، وتدفعه لأن يتابع دعوته ويصبر على الأذى في سبيل نشر هذه الدعوة .
أما النصير الثاني الذي فقده ﷺ : فهو عمه أبو طالب الذي كانت تخشاه قريش فتمتنع عن محمد ﷺ وهي كارهة .
فلما توفي أبو طالب وتوفيت خديجة لم يبق لرسول الله ﷺ نصير أو حصين لذلك اشتد أذى قريش له وضيقوا عليه الخناق حتى أن مكة لم تعد بيئة صالحة لنشر دعوته . فإلى أين يذهب وقد بلغ الأمر منتهاه . ففكر رسول الله ﷺ بالذهاب إلى بني ثقيف بالطائف . وكان يأمل في أن تنضم إليه ثقيف وتساعده وتنصر دعوته . ولكن كانت قلوبهم مغلقة ، ونفوسهم متكبرة ، ولم يكتفوا بذلك بل سلطوا عليه سفهائهم وغلمانهم يرمونه ﷺ بالحجارة ، حتى نزل الدم من قدميه الشريفتين . ويلجأ إلى ظل سور بستان في جنوب الطائف . وفي هذه اللحظة الحاسمة الخطيرة من حياته ﷺ يلتجأ إلى الله . ويدعوه بمناجاة تهتز لها القلوب ويتحرك بها قلبه ﷺ قبل لسانه فيقول :
« اللهم إليك أشكو ضعف قوتي . وقلة حيلتي . وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين . أنت رب المستضعفين . وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني , أو إلى عدو ملكته أمري . إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي . ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك » .
وبعد هذه المناجاة الحزينة المؤمنة تمتد أسباب السماء إلى الأرض . ويرسل الله جبريل الأمين إلى صفيه وعبده محمد ﷺ فيقول له : إن الله قد أمرني أن أطيعك في قومك لما صنعوه معك . وكأن هذا تفويضاً من الله أعطاه لرسوله ومصطفاه ليفعل في هؤلاء القوم ما يشاء . ويرد على صنيعهم القبيح بما يريد .
ولكن محمد ﷺ يرتفع بإنسانيته فوق مستوى البشرية وينسى آلامه وأحزانه وجروحه والدم الذي ينزف منه ويتجاوز عن سيئاتهم ثم يطلب من الله الهداية لهم ويقول : اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون , ويعجب جبريل الأمين من هذا الخلق الرباني ويقول له : صدق من دعاك الرؤوف الرحيم .
يترك الرسول ﷺ الطائف عائداً إلى مكة. ولكن الأخبار التي حدثت له بالطائف كانت قد سبقته إلى مكة. ذلك مما ازدادوا عليه جرأة وأصبحوا يتفننون في إيذائه والتنكيل به .
وهذا موقف نفسي عظيم لرسول الله ﷺ . لذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يسليه ، وأن يبين له أنه إذا فقد النصير والمعين والمساعد , فإن الله هو ناصره ومعينه ومساعده ومؤيده .
فأنزل عليه جبريل الأمين بالبراق . وأسرى به ليلاً إلى المسجد الأقصى في القدس الشريف . فكان أول مسلم يطأ بقدميه القدس ويفتح أبوابها للإسلام والمسلمين .
وهناك على أرض المسجد الأقصى يقف نبينا المعظم ﷺ إماماً في الأنبياء والمرسلين . دلالة على أن أصل الدين واحد ، والرب واحد ، ولكن الناس قد اختلفوا شيعاً وأحزاباً وبدلوا دينهم الذي ارتضاه الله لهم .
فالمسلم إذن هو سيد الكون ، وإمام الناس ، وقائد الأمم . لأن نبينا ﷺ وقف إماماً في الأنبياء والمرسلين فهو إمامهم وزعيمهم وخاتمهم .
جاءت دعوة كل نبي لقومه . أما دعوة سيدنا محمد ورسالة نبيينا محمد ﷺ : فهي للناس كافة وللأمم قاطعة . ( وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين) سورة الأنبياء الآية ( 107 ) .
من حادثة الإسراء يستنتج المسلم أنه عليه أن يكون دوماً وأبداً عزيزاً سيداً في الكون لأن هذه هي المكانة التي وضعه الله فيها .
المسلم : لا يرضى المسكنة . لأن الذل والمسكنة من صفات غير المسلم .
المسلم : لا يتذلل إلا الله عز وجل رب القوة ورب العزة ورب السموات السبع والأرض ومن فيهن . وكل مسلم يعطي الذلّة من نفسه طائعاً غير مكره هو إنسان خرج من ملة الإسلام ، ومن جماعة المسلمين .
القدس أيها الاخوة فتحها لنا أول ما فتحها رسولنا ونبينا محمد بن عبد الله ﷺ في ليلة الإسراء والمعراج . وسلم مفتاح القدس بعد ذلك للمسلمين . يوم حاصرها أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يوم توجهت جيوش الإسلام لفتح بلاد الشام .
وسلمت مفاتيح القدس إلى خليفة رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث دخلها وصلى في بقعة من أرضها المقدسة ركعتين شكراً لله عز وجل على أن كان الفتح على يديه . وفي المكان الذي صلى فيه عمر أنشأ مسجد عمر رضي الله عنه وأرضاه .
ثم عرج رسول الله ﷺ إلى السموات العلا ، وهناك في السماء السابعة وقف جبريل عليه السلام وقال لرسول الله ﷺ : لكل إنسان مكانته ومنزلته فلا يحق لي أن أتخطى حدود سدرة المنتهى . هناك حيث رأى ﷺ من آيات ربه الكبرى وما زاغ البصر وما غوى .
وهناك في السماء السابعة فرضت الصلاة . كل فرائض الإسلام فرضت في الأرض ما عدا الصلاة فإنها فرضت في السماء . وما ذلك إلا لأهميتها في الإسلام . وهي ركن الإسلام الكبير .
والصلاة على حقيقتها ليست عبارة عن حركات جوفاء لا معنى لها ولا روح ، وإنما هي رحلة روحية يتصل بها العبد بربه بخالقه يستمد منه القوة والعزم . هذه الرحلة التي تتجدد كل يوم خمس مرات مفروضة ، أو أكثر إن شاء الإنسان . فما رأيكم بعبد يتصل بربه كل يوم خمس مرات يوجهه فيها سبحانه وتعالى ويرعاه ويعطيه القوة والعزم .
هذه هي الصلاة فكلما اشتدت الأزمة على نفس المؤمن ، وكلما ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وكلما احتاج إلى قوة وعزيمة ، وكلما شغلته الدنيا ، اتصل بربه وخالقه يستمد منه القوة لأنه رب القوة والعزة لأنه رب العزة . إن القوة لله جميعاً ، ولذا يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون . إلى قوله تعالى : والذين هم على صلواتهم يحافظون )
هذه الرحلة الروحية ، وهذا المعراج لنفس المؤمن له معان عظيمة وفوائد جليلة ، وعلى نهج هذه المعاني التي نستمدها من الصلاة يجب أن تكون حياة المسلم وسلوكه وعاداته وأخلاقه .
المقالات »