ما كتبه المرحوم محمد فيصل شيخاني في كتابه رجال من بلدي ( 2 )
شيخ الكيميائيين
طارق إسماعيل كاخيا
رحلة بين العلم والجهاد والإيمان
دراسة لشخصية يحتذي بها كل فتى وفتاة ورجل وامرأة في وطننا ال
تأليف الباحث محمد فيصل شيخاني عضو الجمعية التاريخية السورية
الإهداء
إلى أبناء العروبة , إلى أبناء بلدي , إلى كل إنسان امتلك الفكر النير والعاطفة الصادقة وسار على درب الحق والعدالة والذوق السليم, إلى أبناء وأحفاد وطلاب وأصدقاء صاحب هذه الترجمة الذي حبب إلى قلوبهم الصدق والإخلاص في العمل . وضرب لهم المثل الأعلى في البحث العلمي والتاريخي والأدبي والإفادة منه وحب الآخرين ومساعدتهم . وغرس في نفوسهم كل معاني الفضيلة والحب . أخي وحبيبي : الرجل العالم , الباحث الناقد , والزوج الصالح , والأب الرؤوف الرحيم , والأخ المحب , والصديق المخلص , والمربي المعطاء , شيخ الكيميائيين كما يدعوه أقرانه , الأستاذ العلامة : طارق إسماعيل كاخيا . أقدم هذا الكتاب الذي أتحدث فيه بما علمت وسمعت منه ومن أقرانه ومحبيه خلال صحبتي له هذه السنين الطوال .
راجياً أن يصفح عما قصرت عنه , آملاً أن تسيروا على نهجه وخطاه في خدمة هذه الأمة , وأن تكون قدوتكم قول رسول الله r كما هي قدوته حين يقول ﷺ :(من سلك طريقاً يبتغي به علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة , وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يصنع .) ويقول ﷺ : (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة , ومذاكرته تسبيح , والسعي إليه جهاد , وبذله لأهله قربة , وتعليمه لمن لا يعلم صدقة ) .
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل .
الباحث محمد فيصل شيخاني
تصدير
معظم الباحثين عن شخصية ما يقومون بالكتابة عن هذه الشخصية بعد وفاتها بزمن طويل . فتضيع المعالم وتنسى الذكريات وتفقد الأعمال . فيلجأ الباحث هنا وهناك ليجمع أخبار من يقوم بدراسة حياته . لذا رأيت بعد أن كتبت عن أستاذنا الكبير راغب الجمالي بعد وفاته , أن أكتب عن شخصية فذة حية تسير بين ظهرانينا نستمد منها المعاني الفاضلة والعلم الغزير , إنه الكيميائي العلامة : طارق إسماعيل كاخيا.
قصة طارق إسماعيل كاخيا قصة رجل عالم جليل ناجح ومبتكر وأنموذج لكل شاب ورجل يتطلع إلى العلياء ولرفع شأن أمته ووطنه وبلده .
صاحب الترجمة في هذا الكتاب , إنسان يسحرك بحديثه ورقته وبساطته ويفاجئك بعلم راجح وتجربة ساحرة . صاحب هذه الترجمة يشبه سنبلة قمح مليئة ، بمئات الحبات اليانعات من تجارب عديدة ، ولكل حبة منها خصوصياتها ونكهتها تتبارى مع تجاربه العديدة لتشكل سمفونية تموج بألحان يفوح منها عطر ندي ، يشكل قصصاً ممتعة وهذه القصص تنمو كقوس قزح يتدرج بألوان وأشكال تسحر أفئدة الكبار والصغار على السواء , لأنها منسوجة بروح إنسانية لحمتها العلم وسداها الإيمان . هذه المنسوجة الحلوة شكلها عقل مرن مبدع وعاطفة إيمانية جياشة وخيال متسع الأرجاء .
قصة هذا الرجل قصة النضال المستمر والجهد الدؤوب والفكر النير والعاطفة الإنسانية الصادقة ، عاطفة رد الجميل لمن قدم له يد المساعدة ومن رباه وأحسن إليه ، وعاطفة حب الخير وتقديمه لمن يحتاج بشرط أن يرد الجميل كسلسلة متصلة الحلقات لتعم الإنسان . لقد حباه الله فكراً متزناً ، وعاطفة جياشة وغيرة متشبعة ، وحماسة متقدة , صعّد ذلك إيمانه العميق بالله سبحانه وتعالى ، وبالقيم الطيبة التي ورثها عن والديه وتلقاها عن أساتذته وشيوخه ومعلميه .
لقد مني العالم العربي منذ القرن الحادي عشر الميلادي وما يليه بسلسلة من الفتن الداخلية والحروب الخارجية بدءاً من الحروب الصليبية وغزو التتر إلى الحروب الاستعمارية الحديثة في القرنين العشرين والحادي والعشرين مما أدى إلى تضعضع الكيان السياسي وتشرذم الأمة العربية إلى دويلات , وأصاب المحيط العلمي أثر من هذا التضعضع ، فتراجعت الأمة العربية عن دورها العلمي والسياسي ليس في قيادة البشرية جمعاء فقط بل حتى في المحيط الداخلي حتى أن عقولها المفكرة لم تجد مناخاً في موطنها وأصبحت غريبة في دارها , وما كان عليها إلا أن تهاجر إلى بلاد من استعبد أمتهم واحتل بلادهم إلا من رحم ربك . كصاحبنا الكبير السيد كاخيا ، الذي لم تغره مغريات الغرب بل كان يسافر إلى هناك ليعطيهم ويأخذ منهم المفيد والصالح فكان وجوده هنا وهناك فسحة من فسحات الرجاء تهب إلى قلوب اليائسين وعزمة من عزمات الإيمان تنبعث في أوساط المتخاذلين وومضة نور تضيء الطريق للمدلجين .
إن صاحبنا الذي هزتني دراسة آثاره وحياته هزاً عنيفاً ، لأنه شخصية فذة قد آتاه الله من العلم مع التواضع ما لم يأت غيره ، وأنا إذ أكتب عنه ليس غايتي تخليد ذكره وإن كان هذا يجب أن يكون . وإنما من أجل أن يسير أولاده وأحفاده وطلابه والجيل الصاعد ويحذوا حذوه .
وأستطيع أن ألخص مظاهر عظمة شخصيته في هذه الأمور السبعة وذلك ما سوف تراه وتشاهده مفصلاً هنا وهناك في صفحات هذا الكتاب :
أ ولاً : جرأته العلمية . وإخلاصه لنصح الناس أجمعين .
ثانياً : شخصيته المؤثرة في سبيل العلم لطلابه وتحريضه لهم بسلوك طريق العلم الذي نحن بأمس الحاجة إليه لنهضة أمتنا والنصرة على أعداءنا .
ثالثاً : غوصه العظيم على أسرار العلم بكل ضروبه : (علوم الكيمياء والفيزياء والرياضيات والتاريخ والفلك والأدب والشرع ) وإحاطته بمقاصد هذه العلوم ووصوله إلى لبها . فإذا بهذه العلوم تبدو له حبات في عقد منتظم منسجم .
رابعاً : إقدامه على الكثير من الأعمال التي يعجز عنها الآخرون . أو يحتاجون إليها. فكم من مرة تقدم للخطابة في مساجد عدة يوم الجمعة حيث لا يوجد خطيب ، أو تقدم لقيادة فئة من الناس حيث لا يوجد قائد , فهو مؤسس الجمعية الكيميائية السورية وغيرها وكان يقول مثلي كمثل خالد بن الوليد : يوم مؤتة عندما استشهد القادة الثلاثة الذين ولاّهم رسول الله r تقدم خالد ونصب نفسه قائداً وأنقذ الجيش من الهلاك .
خامساً : تربيته الصالحة لأولاده وطلابه ورعايته الصادقة لأسرته حيث يعتقد أن الفرد الصالح هو لبنة الأسرة الصالحة , وهذه اللبنة أساس في تكوين الأمة الصالحة القوية .
سادساً : تواضعه وكرمه وبشاشة وجهه ومحبته الخير للناس أجمعين ومساعدته لهم والأخذ بيدهم وكان يقول متمثلاً قول الرسول ﷺ :
( تبسمك في وجه أخيك صدقة ، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة ) وقوله ﷺ : ( الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ) .
سابعاً : جهاده في سبيل وطنه فهو منذ نعومة أظفاره وحتى يومنا هذا يسخر علمه في سبيل قضية الوطن الأولى قضية فلسطين وتحريرها من المغتصب الصهيوني . ويقول متمثلاً حديث الرسول ﷺ : ( يثاب بالسهم ثلاث نفر : الذي صنعه والذي نقله والذي رمى به ) .
تلك في رأيي أهم مظاهر عظمة شخصية صاحبنا ولو أن كل واحدة منها كافية لأن تبوأه مكاناً علياً في قلوب كل من يلقاه , ويستأثر بحبهم والتفافهم حوله والتماسهم لعلمه , فكيف إذا اجتمعت كلها فيه .
سمعت باسم هذا الرجل من قبل سنوات طويلة ولكن كانت أول معرفتي به عندما حاضر عام 1998 في محاضرة مشتركة بين الجمعيتين التاريخية والكيميائية بعنوان : دور الكيمياء في الكشف عن الآثار وحفظها , وفي نهاية المحاضرة أعلن اعتزاله عن رئاسة الجمعية الكيميائية السورية بعد أن مضى على إنشائها خمسة وعشرين عاماً . وقدم في نهاية المحاضرة حفلة شاي احتفالاً كان له أثره الكبير في نفوس الحاضرين .
فظننت في حينه أنه مختص في علم الكيمياء فقط ، حيث يجيب على الأسئلة التي تخص مادته بكل طلاقة وثقة , لم لا وهو مؤسس ورئيس الجمعية الكيميائية السورية منذ تأسيسها في عام 1973 . ولكنني وجدت فيه بما بعد صفة العلم الغزير في كل ضروب العلم مع التواضع الشديد والميل للدعابة .
فهو يُلمُّ بالمعلومات التاريخية ، ويتحدث عن الشخصيات التاريخية بالرغم أنه كيميائي , وأهم من كل ذلك فهمه العميق للحادثة التاريخية وتقيميها والاستنتاج منها . وفيما بعد وجدتُ فيه الإنسان الضليع بكل المواضيع وأنه والله لمكتبة متنقلة تحوي جميع ضروب العلم . ذلك مما يسهل الأمور ويجعل للحياة طعماً ، ويفيد نفسه ويفيد مَنْ حوله ، ليس أفراد عائلته فقط بل كل المتعاملين معه ، وزاد إعجابي به عندما وجدته الرجل الصالح المؤمن الذي يحب تدعيم القيم الأخلاقية الفاضلة . و يجعل الآخرين يهتمون بالقيم . فهو المرشد والناصح والمدرس والمربي والخطيب ، ليس من نواح دينية فقط ، بل من نواح عديدة . فهو يحب لجلسائه التقدم وعدم الوقوف عند نقطة واحدة من نواحي عملهم وعلمهم وتفكيرهم , ويريد لطلابه وقرنائه ولمن يتعامل معهم أن يشابهوه في علمه ونشاطه وسلوكه وأخلاقه . وزاد من إعجابي به سفراته الكثيرة وزياراته المتكررة للبلاد الأوروبية والعربية بسبب العمل أو العلم أو التجارة أو الاطلاع على المجهول دون أن تأثر هذه السفرات سلباً على ما يحمله من قيم وأخلاق .
وما أجمل وما ألطف من أن تجلس معه ويحدثك عن كل بلد زارها قصصاً جرت معه يذكر فيها عبرة وتشوق لمعرفة المستقبل والمجهول .
ولعل أبرز ناحية لشخصيته هي ذكاؤه الوقاد وملكته الأصيلة في فهم العلوم وروحها ومقاصدها فهماً راسخاً شاملاً عقلياً دقيقاً و مبتكراً , وكان يقول إن الله سبحانه وتعالى شبه الذين يحملون العلم ولم يطبقوه ويستفيدوا منه كمثل الحيوان الأعجم الذي يحمل الكتب و هو تعب بحملها حيث يقول سبحانه وتعالى: ( مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً ) . ويظهر ذلك جلياً واضحاً لمن يطلع على كتبه ومؤلفاته الكثيرة في العلوم المتعددة حيث يدعو إلى تطبيق العلم والأخذ به لما ينفع الناس خاصة في كتابه : مائة صناعة كيميائية مختارة . وكتابه : صناعة المواد الأولية اللازمة للصناعات الدوائية . وكتابه معالجة المياه للأغراض الصناعية والمنزلية . بل حتى في كتابه : الزواج الإسلامي . وسلسلة كتبه في الطب النبوي . وهذه الناحية من شخصيته العلمية ذات شأن كبير تحتاج إلى دراسة خاصة وبحث مستقل كنت أود أن أتوسع فيها ولكن ذلك سيوسع البحث ويضيق المجال فيكفيني منها الإشارة والاختصار . ويمكن أن نقول عنه أن علمه أكثر من تصانيفه ومؤلفاته . ولئلا أترك جانباً من حياة الرجل غير مدروس وأقيم له صورة متكاملة متناسقة رجعت إلى جميع ما مكنني فيه من المصادر التي أشار علي بها وإلى مذكراته ومخطوطاته وكتبه بل حتى إلى آل بيته وزوجته وأولاده واخوته ثم إلى أصحابه وأقرانه وطلابه , وكلما أشكل علي أمر عدت إليه لأستفسر عن ذلك خوفاً من قرب منيتي أو منيته فلا أستطيع أن أكمل ولا أستطيع أن آخذ منه .
ولقيت عناء كبيراً في الوصول إلى بعض الجوانب ثم إيجاد التسلسل والترابط الزمني بين مجريات حياته وأخذ مني ذلك الجهد العظيم والوقت الكبير وبسبب سفراته وانشغاله كانت تضيع علي إجابات عن استفسارات كثيرة مهمة كما كان أحياناً لا يفصح لي عن بعض مكنونات نفسه ويقول : اللهم اجعلني خيراً مما يظنون واغفر لي مالا يعلمون .
وبعد حسبي أن أردّ في كتابي هذا للرجل بعض ما يستحق من التقدير والاحترام شاكراً لكل من ساعدني في إخراج هذا الكتاب عن علم من أعلام حمص ليبقى الناس على ذكراه في حياته وبعد مماته . وأسأل الله أن يعينني على إخراج بقية كتبي عن أعلام حمص كي لا ينساهم الناس .