هناك في بعض السور مواضيع وقصص تبين أحداث المسيحية الأولى . وكيف صبر أصحابها على ما أوذوا . خذ مثلاً على ذلك قصة أصحاب القرية وهي ( إنطاكية ) في سورة ياسين :
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُون َ(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُون َ(14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُون َ(16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين ُ(17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا
قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِين َ(20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُون َ(21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون َ(22) ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ ءَالِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِين ٍ(24) إِنِّي ءَامَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُون ِ(25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون َ(26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِين َ(27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُون َ(29) يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون َ(30) .
هذه القرية هي إنطاكية في قول جميع المفسرين . والذين قالوا : بأن عيسى عليه السلام بعث رسولين من الحواريين إلى أهل مدينة إنطاكية هما يوحنا وبولس , فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار , صاحب يس فسلما عليه , فقال الشيخ لهما : من أنتما ؟ فقلا : رسولا عيسى يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن , فقال : أمعكما آية ؟ قالا : نعم نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله , فقال الشيخ : إن لي ابناً مريضاً من سنين , قالا : فانطلق بنا نطلع على حاله , فأتى بهما منزله فمسحا ابنه , فقام بإذن الله صحيحاً , ففشي الخبر في المدينة , وشفى الله على أيديهما كثيراً من المرضى , وكان للمدينة ملك من ملوك الروم يعبد الأصنام , قال : فانتهى الخبر إليه فدعاهما , فقال: من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى , قال : وفيم جئتما ؟ قالا : ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر , فقال لهما : ألنا إله دون آلهتنا ؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك , قال : قوما حتى أنظر في أمركما , ولكنه عتا واستكبر فأمر الناس تتبعهما فأخذوهما وضربوهما في السوق ثم حبسهما .
فلما كذّب الرسولين وضربا , بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما لينصرهما , فدخل شمعون البلد متنكراً , فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به , فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته وأنس به وأكرمه , ثم قال له ذات يوم : أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك , فهل كلمتهما وسمعت قولهما ؟ فقال الملك : حال الغضب بيني وبين ذلك , قال : فإن رأى الملك دعاهما حتى نطّلع على ما عندهما , فدعاهما الملك , فقال شمعون : من أرسلكما إلى ههنا ؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك , فقال شمعون : فصفاه وأوجزا , فقالا : إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد , قال شمعون : وما آياتكما ؟ قالا ما تتمناه , فقال الملك : إن هنا ميتاً مات منذ سبعة أيام ابن لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه وينظره وكان غائباً , فإن قدر إلهكم الذي تعبدانه على إحياءه أمنا به وبكما , قالا : إلهنا قادر على كل شيء , فجاءوا بالميت وقد تغيّر وأروح , فجعلا يدعوان ربهما علانية , وجعل شمعون يدعو ربه سراً , فقام الميت , وقال : أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأن عيسى روح الله وكلمته , وأن هؤلاء هم رسل الله , فقالوا : وهذا شمعون أيضاً معهم ؟ فقال : نعم وهو أفضلهم , فأعلمهم شمعون أنه رسول المسيح إليهم .
فآمن البعض , وكفر الملك رغم هذه الآيات البينات , وأجمع هو ومن كفر من قومه على قتل الرسل , فبلغ ذلك حبيباً , وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة الأقصى , وكان مؤمناً ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين , فيطعم نصفاً لعياله ويتصدق بالنصف الآخر .فلما بلغه أن قومه قد قصدوا قتل الرسل جاءهم يسعى إليهم يذّكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين , الذين لا يسألونهم أجراً وهم مهتدون . فرفعوه إلى الملك الذي سأله : أأنت على دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم ؟ . قال : وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون َ. فلما قال ذلك وثب القوم عليه وثبة رجل واحد فقتلوه فأدخله الله الجنة قال : قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُون َبِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِين . فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل لهم النقمة , فأمر جبريل عليه السلام فصاح عليهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم . وأنزل الله بذلك قرأناً يتلى فقال :
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِين َ(28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) .
وروي أن عيسى عليه السلام لما أمر الرسل أن يذهبوا إلى القرية قالوا يا نبي الله إنّا لا نعرف أن نتكلم بألسنتهم ولغاتهم . فدعا الله لهم فكلم كل واحد صاحبه بلغة القوم .
وقول أهل المدينة للرسل : قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ , سببه حبس المطر عن أهل المدينة ثلاث سنين , فقالوا للرسل هذا بشؤمكم , فقال الرسل : طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ , أي شؤمكم معكم , أي حظكم من الخير والشر معكم ولازم في أعناقكم .
وللبيان فإن مرقد حبيب النجار وشمعون الصفا يقع في قبو في مسجد حبيب النجار في أنطاكية , و يؤم هذا المسجد الكثير من الزوار والسياح وهو مسجد أثري أزوره وأصلي فيه كلما ذهبت إلى أنطاكية