المقالات »

من خطبة صلاة جمعة كنت قد ألقيتها في مسجد مدينة هلسنبرج في السويد

المعاني التي نستمدها من الصلاة
كل فرائض الإسلام فرضت في الأرض ما عدا الصلاة فإنها فرضت في السماء . وما ذلك إلا لأهميتها في الإسلام . وهي ركن الإسلام الكبير .
والصلاة على حقيقتها ليست عبارة عن حركات جوفاء لا معنى لها ولا روح ، وإنما هي رحلة روحية يتصل بها العبد بربه بخالقه يستمد منه القوة والعزم . هذه الرحلة التي تتجدد كل يوم خمس مرات مفروضة ، أو أكثر إن شاء الإنسان .
هذه هي الصلاة فكلما اشتدت الأزمة على نفس المؤمن ، وكلما ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وكلما احتاج إلى قوة وعزيمة ، وكلما شغلته الدنيا ، اتصل بربه وخالقه يستمد منه القوة لأنه رب القوة والعزة . إن القوة لله جميعاً ، ولذا يقول الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) إلى قوله تعالى : ( والذين هم على صلواتهم يحافظون )
هذه الرحلة الروحية ، وهذا المعراج لنفس المؤمن له معان عظيمة وفوائد جليلة ، وعلى نهج هذه المعاني التي نستمدها من الصلاة يجب أن تكون حياة المسلم وسلوكه وعاداته وأخلاقه .
المعنى الأول الذي نستمده من الصلاة :
كلنا يعلم أنه لا يصّح للمسلم أن يصلي الوقت قبل دخوله . فمثلاً لا يصلي العصر قبل أن يحين موعد العصر ، أو المغرب قبل أن يحين موعد المغرب ، من هذه الفكرة ، فكرة عدم صحة صلاة وقت قبل دخوله . تبين للمسلم أن عليه أن يقضي أعماله وينفذها في الوقت المناسب لها .
والمعنى الثاني الذي نستمده من الصلاة :
من فكرة تكرار الصلاة في اليوم خمس مرات وبأوقات معينة ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ) سورة النساء الآية ( 103 ) تبين أنه على المسلم أن ينظم أوقات حياته وأعماله وأن لا يضيع دقيقة من وقته بلا فائدة ، لأنه سيسأل عنها يوم القيامة ، سيسأل عن عمره أين أفناه ، وعن ماله أين أنفقه ، وفي أي الوجوه بذله ومن أين جمعه ، وعن شبابه كيف قضاه ، وعن وقته أين صرفه وأضاعه ، ثم اسمعوا إلى الحديث الجليل حديث رسول الله ﷺ كيف يدعو المسلم إلى الاستفادة من وقته ، واستغلال هذا الوقت بما يعود نفعه عليه وعلى أمته حيث يقول ﷺ : « وما من يوم ينشق فجره إلا وينادى يا ابن آدم ، أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد ، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة » .
والمعنى الثالث الذي نستمده من الصلاة :
كلنا يعلم أن الصلاة لا تصح إلا بطهارة البدن والثوب والمكان .
وهذه الفكرة تبين للمسلم أنه عليه أن يكون طاهراً في كل شيء في سريرته وعلنه وماله وبدنه ، أن يكون نظيف القلب ومطهره من أرجاس الشرك والكفر والعبودية لغير الله ، ولا يغش ولا يخدع ولا ينافق ولا يعادي ولا يداهن ولا يحتكر ، ولا يكذب ولا يخون : « من غشّ ليس منّا » آيات المنافق ثلاث : « إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ، وإذا وعد أخلف » .
وتبين للمسلم أيضاً أن يكون نظيف المظهر لا يبدو في ثياب وسخة قذرة وشعر أشعث وأن يكون مكان عمله أو بيته نظيفاً فالنظافة من الإيمان . والله سبحانه وتعالى يقول : ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ) سورة الأعراف الآية ( 32 ) .
والفكرة الرابعة التي نستمدها من الصلاة :
هي أن الصلاة لا تصح إلاّ باستقبال القبلة , وهذه الفكرة تبين للمسلمين أنه عليهم أن يكونوا دائماً متحدين متماسكين غير متفرقين أو متباغضين لأنهم جميعاً يتجهون إلى قبلة واحدة ، إلى هدف واحد ، إلى فكرة واحدة ، يعبدون رباً واحداً ، ويؤمنون بدين واحد .
والفكرة الخامسة التي نستمدها من الصلاة :
انظروا كيف أن الصلاة يدعى إليها وينبه لدخول وقتها بالآذان .
فالمؤذن ينادي ويقول ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح . فهذه الفكرة ، فكرة الاستجابة لداعي الله في الصلاة . تبين أن على المسلم أن يستجيب ويسرع لإجابة نداء الله في كل عمل ، لا في الصلاة فحسب ، فإذا نادى المؤذن أن حي على الصلاة لباه المسلم وأقبل على الصلاة ، وإذا نادى المنادي أن يا خيل الله اركبي كشف المسلم عن صدره وادرع به ونادى لبيك « يا حبذا الجنة باقترابها طيبة وبارد شرابها » , وإذا نادى المنادي إلى تقويم فساد أو ظلم أو منكر أو بغي ، قام المسلم يذود عن دينه ليحارب هذا الفساد الظلم وهذا المنكر والبغي .
ثم أن منادى الله في كل وقت يأمر بالصدق والإخلاص والجهاد والضحية والبذل وحسن المعشر وحسن المعاملة , فعلى المسلم أن يستجيب لهذا المنادى تماماً كما يستجيب للمؤذن .
والمعنى السادس الذي نستمده من الصلاة :
هو أنه بعد أن يستجيب المؤمن للمؤذن يذهب للمسجد ويدخله ، فصاحب الأجر الأكبر هو لمن في الصف الأول . لأن المستجيبين الأوائل هم أصحاب الصف الأول والذين من بعدهم في الصف الثاني وهكذا .
والرسول ﷺ يقول : « لو علم الناس ما في الصف الأول من فضل وخير لتقاتلوا عليه بالسيوف » . من هذه الفكرة ، فكرة أن الفضل في الصف الأول ، والصف الأول لن يكون إلاّ للسابقين ، فهذه تبين للمسلم أنه عليه أن يكون سباقاً في الخير والبر والعمل الصالح .
ثم أنه في المسجد لا مكان معين ومخصص ، هذا للفقراء وآخر للأغنياء ، وهذا للأمراء ، وهذا للعامة من الناس . بل كل الناس سواسية كأسنان المشط ، بل إن أصحاب الفضل هم أصحاب الصف الأول لسبقتهم وإسراعهم ، والله سبحانه وتعالى يقول : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) سورة الحجرات ( 13 ) .
والمعنى السابع الذي نستمده من الصلاة :
هو حين وقوف المسلم بين يدي الله عز وجل ناوياً للصلاة , في هذه اللحظة يخرج فيها من الدنيا ويقبل على الله ، وتراود نفسه الدنيا ، وتراود نفسه الشهوات والأهواء ، ولكنه يقول لهذه الدنيا وزخرفها ، إن ما عند الله خير منك وأحسن ، ما عند الله أكبر ، الله أكبر .
فهذه الفكرة تبين لنا أنه على المسلم أن يقبل دوماً إلى الله , ولا يلتفت إلى ما ورائه من الدنيا وما فيها ، فما عند الله خير وأبقى .
ثم يبدأ صلاته بدعاء التوجه إلى الله ، ثم بالفاتحة ، فاتحة الكتاب التي يقرأها في كل ركعة ، يحمد الله فيها – الحمد لله – ويعترف له بالربوبية وأنه لا رب سواه – رب العالمين – وبأنه رحيم وغفور مع عباده المؤمنين – الرحمن الرحيم – وأنه جبار قوي شديد مع الكافرين حيث سيحاسبهم يوم القيامة – مالك يوم الدين – ثم يعترف المسلم ويقر ويعتقد بأنه عبد فقط لله – إياك نعبد – وأن المساعد والمانع هو الله فقط – وإياك نستعين – ثم يسأل الله الثبات على الدين القويم والرشد والهداية – اهدنا الصراط المستقيم .
والمعنى الثامن الذي نستمده من الصلاة :
هو حين الركوع ، فإذا ما ركع المصلي ، فهذا الركوع يهبه القوة والعزة ، وأنه لا يركع لبشر أو سلطان أو صاحب قوة أو جاه ، وإنما يركع لله ، رب القوة ، ورب العزة ، ورب العظمة – سبحان ربي العظيم – .
ولماذا لم يختار الإسلام أي لفظ آخر من ألفاظ الجلالة مثل : الكريم أو الغفور، أو الرحمن . فيقول المسلم في ركوعه مثلاً سبحان ربي الغفور أو سبحان ربي الرحمن . كلا بل إنها لفتة كريمة من الإسلام تبين للمسلم أنه ليس هناك من قوي أو عزيز أو قادر أو عظيم سوى الله يستحق الركوع له . لذا يجب أن لا يركع ولا يخضع إلا لهذا العظيم – سبحان ربي العظيم – .
فهل من دين يربي في نفوس أتباعه عزة وعظمة وقوة كالإسلام ، إن أتباعه يستمدون القوة من رب القوة ، والعزة من رب العزة ، والعظمة من رب العظمة ، وهم لا يخضعون ولا يركعون إلا لله عز وجل .
وكذلك حال المسلم في سجوده فهو يقول : سبحان ربي الأعلى . أعلى من كل قوى وأعلى من كل جبار . وهذه لفتة من الإسلام كريمة إلى أتباعه أن لا يسجدوا ولا يطأطئوا رؤوسهم ولا يعطوا الذلّة من أنفسهم
والمعنى التاسع الذي نستمده من الصلاة :
في صلاة الجماعة هل من أحد يستطيع أن يخالف الإمام كأن يسبقه أو يقصر عنه ، من فعل ذلك فسدت صلاته . ولكن إذا أخطأ الإمام في قراءته أو حركاته في أثناء الصلاة ، وجب على المسلمين من خلفه أن يردوه إلى الصواب ويعيدوه إليه وإلا فسدت الصلاة إذا كان الخطأ كبيراً ولم ينبه عليه المصلون . وهذه لفتة من الإسلام كريمة ، إلى أتباعه أن يطيعوا أولياء الأمر منهم ما داموا على الحق وعلى الكتاب المبين . فإذا زاغوا أو انحرفوا , نبهوا إلى ذلك فإن لم يرجعوا عن غيهم وظلمهم ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . وعليهم أن يقوموهم ولو بحد السيف كما قال الأعرابي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد سيوفنا فقال عمر رضي الله عنه : الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم عمر إذا اعوج .
لهذه المعاني الخالدة التي يستمدها المؤمن من الصلاة ، قال الله تعالى :
( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) سورة العنكبوت الآية ( 45 ) .
نعم لأن الرجل إذا أراد أن يذنب أو يؤذي أو يفعل منكرا تفكر أنه بعد قليل سيؤدي الصلاة ويقف بين يدي رب العالمين ومالك يوم الدين ، الذي يعلم كل شيء وسيحاسبه يوم الدين . لذلك فإن الرجل المؤمن الحق تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر . هذه الصلاة التي تعلم المسلم أنه عليه أن يستجيب لنداء الله ، تجعله يأبى أن يستجيب لنداء الشيطان وأصحاب السوء والمنكر والفحشاء .
هذه الصلاة التي تريد من المسلم أن يكون طاهراً في بدنه وثوبه ، تريده وتجعله أيضاً طاهراً في قلبه وسريرته ، لا تلوثه الآثام ولا تدنسه الذنوب ، والله سبحانه وتعالى يقول :
( لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك فقد ضل سواء السبيل ) سورة المائدة الآية ( 12 ) .

والصور أدناه هي صور المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال


تاريخ المقالة:

مصنفة في:

, , ,