أولا – تاريخ استعمال الغازات السامة في الحروب
تطور استعمال الغازات السامة
إن فكرة استخدام الغازات السامة في الحروب قديمة العهد ويرجع ذلك إلى بدء نشوء الحرب بين بني الإنسان . بل تعدى ذلك أيضاً إلى عالم الحيوان فنجد بعضها ( الخنفس ) مثلاً يفرز غازات مخدرة أو كريهة الرائحة عندما يقتفى أثره العدو .
ففي عهد القبائل الأولى التي كانت تسكن المغارات والكهوف كانوا يلجأون في أثناء الكفاح بين بعضهم البعض إلى تدخين مغارات الخصوم . وفي الكتابات القديمة الآشورية المحفوظة في دار الآثار البريطانية بعض الوصف لاستعمال الغازات السامة ، وكانت تستعمل في البر والبحر ، واستعمل قدماء اليونان الغازات السامة في سنة 431 ق . م بشكل لهيب يحدثه مخلوط من الكبريت والكربون والقطران ويطلق بواسطة قاذفات كبيرة (( منجنيقات )) .
وبعد ذلك استعملوا الأسهم المغموسة في خليط من الكبريت والكربون والنفط يشعلونها ثم يطلقونها صوب أهداف قابلة للاشتعال كالأخشاب والأحطاب بقرب العدو وتلتصق بها الأسهم وتحث أثناء احتراقها غازات سامة تنتشر في الجو وكان الأعداء يتقون ذلك بتغطية الأسهم والأهداف بالطين أو بالتراب .
وقد اتخذت الحرب الكيميائية أهمية كبرى عندما أدخل على الحروب استعمال النار اليونانية وقد عرف تركيبها السري عندما فر المهندس كالينوس في سنة 168 بعد الميلاد من عين شمس إلى القسطنطينية وأفشي هذا السر إلى حكام الإمبراطورية الشرقية . وإن أهم تركيب لها هو الموجود به الكبريت والنفط والشمع والتربنتين والجير الحي وكانت تلقى من منجانيق أو أنابيب مركبة السفن .
وقد أريد في العصور الحديثة الانتفاع باستعمالها في الحروب فاستعملت في الحرب الأميركية سنة 1861 م عندما حاصر الشماليون شارلستون حيث كانوا يشعلون أخشاباً مشبعة بالكبريت والملح والكربون عند مناطق الحصار بالمدينة ليجبروا المدافعين عنها على الخروج منها خشية الاختناق بعد أن أشار عليهم بذلك اللورد بليفير ( ply Fi ar) الإنكليزي .
وبعد ذلك في نفس الحرب الأميركية المذكورة استعملوا قذائف ( sells ) من مركب فسفوري محترق . وقد استعملت في عدة ظروف بعض مركبات لمحاربة قرصان البحر كانت تلقى من أوان أو كرات محتوية على قطران وراتنج القلفونيا وبارود وحنتيت ومواد كيميائية مهيجة وكانت تحدث هذه المواد سعالاً وإذرافاً للدمع كما كان يلقي في بعض الأحيان على السفن مسحوق الجير الحي .
وعندما اشتعلت نيران الحرب العظمى اندفعت جميع الأم في الأبحاث والتجارب ودخلت في دور مباراة عظيمة توصلت على أثرها إلى نتائج باهرة . واهتدى الإنسان إلى بعض مواد تؤثر أبخرتها في أعضاء الجسم المختلفة , ومما ساعدها على ذلك تقدم علم الكيمياء تقدماً عظيماً وكذلك الصناعات بأنواعها .
وقد كانت معظم المواد التي أجريت عليها التجارب والأبحاث في هذه الفترة معروفة للعالم كله قبل نشوب الحرب وكان يستعمل منها الكثير في إبان السلم في بعض الصناعات وكانت خواصها أيضاً معروفة لدى الكيميائيين وكثيراً ما وقفت حجر عثرة في سبيل أبحاثهم إما لرائحتها الكريهة أو لتأثيرها المهيج أو السام .
وقد بلغ عدد المواد التي أجريت عليها التجارب حوالي ثلاثة آلاف مادة لم يصلح منها في الحروب غير ثلاثين مادة فقط كانت بينها اثنتا عشرة مادة جاءت بأحسن النتائج المطلوبة في ميادين القتال حيث أنه لا يكفي أن تكون المادة شديدة التأثر بل يجب أن تكون مستوفاة للشروط الكثيرة التي تجعلها صالحة لأغراض القتال .
وكان الألمان أول من استعمل الغازات في الحروب العالمية الأولى في 21 أكتوبر 1914 حيث استعملوا غازا مهيجاً ( أحد مركبات البروم ) في نيف شابل فلم ينجحوا . ثم استعملوا قنابل مسيلة للدموع في الخط الروسي ولكن لبرودة الجو لم تنجح هذه أيضاً .
وفي 22- 24 نيسان 1915 فاجأ الألمان الحلفاء بأن وضعوا الكلور في اسطوانات من الصلب ونقلوا هذه الاسطوانات إلى ميادين القتال ، وانتظروا إلى الوقت المناسب حيث كان اتجاه الريح نحو العدو وفتحوا صمامات هذه الاسطوانات فانطلق من فوهاتها غاز الكلور فكون سحابة كثيفة ووجهتها الرياح إلى أماكن العدو وهو بدون وقاية .
وقد كان لهذه المفاجأة تأثير عظيم وبالأخص في الروح المعنوية للجيوش الفرنسية فضلاً عن عدد الضحايا الكبير الذي ينوف على 16000 جندي – ( هؤلاء الجنود كانوا من إخواننا الجزائريين حيث وعدت فرنسا الجزائر بالاستقلال لو انتصرت في الحرب ) – ولكن الألمان لم ينتهزوا هذه الفرصة إذ لو هجموا عندئذ بجيش من الفرسان لوصلوا بحر المانش لخلو الطريق أمامهم وانتهت الحرب في صالحهم عندئذ .. ولكنهم أحجموا عن الهجوم . وبعد نجاح هذه الطريقة اتجهت الأفكار إلى تحسينها وتهذيبها وأطلق عليها طريقة ( النفخ ) وقد استعملت من كلا الفريقين مدة الزمن .
وبعد ما توصل الحلفاء إلى معرفة طرق الوقاية من غاز الكلور لجأ الألمان في صيف عام 1915 إلى استعمال غاز الفوسجين بعد إضافة الكلور إليه بنسبة 1 : 3
ولم يكن المقصود من إضافة الكلور إليه الإفادة من فعله الفسيولوجي بل الإفادة من سرعة تبخره – حيث أن الفوسجين بمفرده يغلي في درجة +8 وعلى ذلك يكون في فصل الشتاء عديم التبخر فإذا أضيف إليه الكلور الذي يغلي في درجة 35,5 تحت الصفر أصبح المخلوط يتبخر بسرعة حتى في أيام الشتاء الباردة .
وبعد أن نجح الحلفاء في معرفة طرق الوقاية من الفوسيجين بأن أضافوا في مرشح الكمامات مادتين كيميائيتين وهما ( فينول الصوديوم والأرتروبين ) للتفاعل مع الفوسجين ، استعمل الألمان في سنة 1917 المادة الثالثة في ميادين الحرب وهي كلور بيكرين 1917 وهذه المادة سريعة التبخر في درجات الحرارة العادية ولو أن درجة غليانها هي 111 مئوية فوق الصفر .
وأما الحلفاء فقد استعملوا أيضاً غاز الكلور في سبتمبر 1915 بعد أن أضافوا إليه رابع كلور القصدير وكذا الفوسجين بطرقة ( النفخ ) وظلوا يعملون بهذه الطريقة حتى سنة 1916 حيث أخذت هذه الطريقة تتلاشى شيئاً فشيئاً للأسباب التالية :
1 – لعلاقتها الشديدة بالرياح :
حيث يجب أن تكون بسرعة مناسبة ( حوالي 3 أمتار في الثانية ) لتأتي بالغرض المطلوب . فإذا نقصت سرعتها عن ذلك فإن سير سحاب الغاز يكون بطيئاً فتعطي للعدو فرصة الهرب أو فرصة الهجوم على أماكن أسطوانات الغازات لتدميرها . وقد دلت التجارب أيضاً على أنه إذا كانت السرعة أقل من مترين في الثانية فيحتمل رجوع سحاب الغازات على الجيش نفسه بدلاًِ من وصولها إلى العدو , وأما إذا زادت سرعة الرياح عن 3 أمتار في الثانية فإنها تحمل سحابة الغاز وتمر بها على العدو وبسرعة فيكون تأثيرها ضعيفاً بالنسبة لقصر الوقت الذي يبقى العدو فيه محاطاً بالسحابة من جهة ثم لقلة درجة تركيز مادة الغاز في الهواء من جهة أخرى .
2 – لعلاقتها بخواص المادة المستعملة :
فأنه لا يمكن استعمال هذه الطريقة إلا بغازات لها خواص كيميائية معينة بأن تكون سريعة التبخر وتكون كثافة أبخرتها أثقل من كثافة الهواء حتى لا تحملها الرياح إلى أعلى بل تلاصق الأرض وتتسرب داخل الخنادق والفجوات وخلافها .
طريقة قذف الغازات :
تملأ أسطوانات بالغازات المراد قذفها مع مواد متفجرة لدفعها إلى صفوف العدو بأجهزة معدة لذلك ويمكن التحكم في وقت الانفجار بواسطة فتيل الاشتعال فيكون الانفجار إما في طريق سيرها فتسقط مواد الغازات على هيئة رذاذ على سطح الأرض أو يكون عند اصطدامها بالأرض وتسيل منها مواد الغازات المحشوة بها.
استعمال الغازات في قذائف المدافع :
ثم تطورت طرق استعمال الغازات إلى أن وصلت المدفعية وملئت لهذا الغرض قذائف بالغازات السامة وأطلقت على الأعداء في ميادين الحرب وقد لعبت هذه الطريقة دوراً كبيراً في أواخر الحرب العظمى الأولى حيث في سنة 1918 كان 80 % من ذخيرة المدفعية الألمانية عبارة عن غازات سامة . وكانت أول قنبلة استعملت بهذه الطريقة محشوة بمادة بروم الأسيتون وأطلق على القنابل المحشوة بهذه المادة اسم القنابل الخضراء (T. gtungtanetein ) ولسهولة تميزها عن القذائف الأخرى رسم عليها صليب أخضر . وعندما تحقق الفرنسيون من نجاح القنابل الألمانية المحشوة بمادة بروم الأستون أرادوا مجارتها ولكن لم يكن من الميسور الحصول على عنصر البروم اللازم لتحضير هذه المادة فاستعاضوا عنه بالكلور وتوصلوا إلى مادتين هما ( كلور الأستون وفوق كلور ميثيل مركبتان ) ولكنهما لم يأتيا بالنتيجة المنتظرة وعلى ذلك لجؤوا إلى الفوسجين مرة أخرى بعد أن أذابوه في رابع كلور القصدير لجعله سهل التعبئة في القذائف .
وكان الألمان أثناء ذلك يوالون الأبحاث والتجارب فاكتشفوا مادة جديدة أطلوا عليها اسم بيرستوف ( perstoff ) كان لها نجاح عظيم في المدفعية وهذه المادة تغلي في درجة 128 فوق الصفر ولكن لبخارها خاصية هامة وهي أنه مكون من جزأين من الفوسجين وعلى ذلك تأثيرها الفسيولوجي شعف تأثير االفوسجين العادي وتمتاز بسهولة الملء في القنابل التي رسم عليها الصليب الأخضر .
وقد لعبت هذه المادة دوراً عظيماً في الحرب العظمى فاستعملت لأول مرة في ليلة 23 / يونيو / 1916 في الهجوم على حصن فردان verdun فأطلق 10000 قذيفة تحتوي على / 200 / طن من البيرستوف فشلت حركة الدفاع الفرنسي كلية . واستخدمت كذلك في التغلب عل الرومانيين حيث كانوا يستعملون بعض الكمامات الفرنسية الرديئة الصنع وبذلك نجح الأمان نجاحاً تاماً في إخضاعهم.
وفي هذه الأثناء كانت هذه المادة هي الذخيرة الوحيدة للألمان ولكن اضطروا أخيراً إلى تركها بعد ما استخدم الحلفاء للوقاية كمامات تشبه الكمامات الألمانية التي تقي من هذه المادة ….
ثم حاول كل فريق من المتحاربين اكتشاف غازات جديدة تنفذ من كمامات الفريق الآخر – فعندما علم الفرنسيون بعد فحص الكمامات الألمانية أنها لا تحتوي على مواد كيميائية لحجز غاز ( حامض السيانيك HCN ) تخمرت الفكرة عنهم باستعماله في الهجوم على الجيش الألماني , وفعلا نفذت الفكرة في أول يوليو سنة 1916 ولكن وصلت أخبار هذه الخطة إلى مسامع الألمان قبل ذلك بثمانية أيام فأخذوا الحيطة منها بأن أضافوا في أيام قلائل إلى جميع كمامات الجيش أكسيد الفضة الذي يمتص هذا الغاز فكان نصيب الفرنسين الفشل التام , وثم اختفت على أثر ذلك جميع قنابل هذا النوع بالتدريج من ميادين الحرب . بعد ذلك صارت طرق الحرب بالغازات وطرق الوقاية منها في توازن مدة طويلة وذهبت محاولات كلا الفريقين عبثاً إلى أن اهتدت ألمانيا إلى مركبات الزرنيخ فوجدوا أن مركبين منها لهما التأثير الحربي المطلوب وهاتان المادتان هما :
1- كلور الزرنيخ ثنائي الفنييل ( كلارك 1)
2- سيانيد الزرنيخ ثنائي الفنييل ( كلارك 2
وأطلق على هاتين المادتين اسم الصليب الأزرق كما رسم على قنابلهما أيضاً للدلالة على محتوياتهما ومن أهم خواص هاتين المادتين التأثير الكامن أي أن لا يظهر تأثيرها إلا بعد مدة من وصولهما إلى الأعداء أي بعد الاعتقاد أنه لاخطر منهما .
ودرجة غليانهما أعلى من 300 فإذا سخنتا إلى درجة الغليان وعرضت الأبخرة إلى الهواء البارد تكاثفت وتساقطت على شكل ضباب . وهذا الضباب ينفذ بكل سهولة من المواد الكيميائية التي كانت تستعمل في ذلك الحين في الكمامات الواقية .. فعندما استعملتهما ألمانيا ووصل بخارهما المتكاثف إلى جيوش الحلفاء ونفذ من كماماتهم إلى أعضاء التنفس وسبب لهم التهابات لم يتحملوها فاضطروا إلى خلع كماماتهم فأطلق عليهم الألمان قذائف الغازات الأخرى الشديدة التأثير , مثل الصليب الأخضر التي فتكت بهم وهم بدون وقاية , وبعد قليل من الزمن توصل الألمان إلى مادة أخرى لا تقي من ضررها كمامات التنفس , لأنها تؤثر في أي جزء من أجزاء الجسم عند ملامستها إياه فتنفذ من الجلد تتلف الخلايا وهذه المادة هي “كبريت ثنائي الإثيل ثنائي الكلور”.Dichloro Diethyl sulfide
وأطلق عليها اسم الصليب الأصفر ( لوست أوغار المستردة أو الخردل )
وكانت في سنة 1917 أهم ذخيرة حربية عند الألمان فقد تمكنوا بها من صد هجوم من الحلفاء على حدودهم وقد بلغ ما يستخرج منها يومياً في أواخر الحرب 30 طن .
*- للبحث صلة –