ثانياً : لمـحة تاريخيـة
وقد أشاد الكثيرون من الباحثين والعلماء المنصفين – العرب والمستشرقين , الأقدمين منهم والمعاصرين بفضل علماء العرب الأقدمين ولفت الأنظار إلى كثير من النظريات والآراء العلمية التي استخلصوها بأنفسهم , ووصفوا العلماء العرب بأنهم أساتذة علماء أوروبا كما أشاروا إلى الطريقة العلمية التي اتبعها علماء العرب والتي تتلخص في أن يصف الباحث المعارف وأن يحكم ما بينهما من وشائج وأن يربط وأن يستنبط القوانين حسب ما يستخلصه من المشاهدات والتجارب والملاحظات التي يسجلها بدقة وعناية ثم يستقرى منها النظريات والفروض والقوانين وهي كلها سلسلة منطقية تصور التفكير العلمي السليم الذي اتبعه هؤلاء العلماء . وعندما تكلموا عن أعمال العرب في الكيمياء وعن نهضتهم فيها وما أحدثوه من تغير وتطوير – أرجعوا ذلك كله للأسباب الآتية :
أولا : أن العرب نقلوا الكتب الكيميائية القديمة وصححوا بعض أغلاطها وتوسعوا فيها ، وهذا عمل جليل ولاسيما وأن أصول هذه الكتب ضاعت ولم يبق منها غير ترجمتها التي استخدمها الأوروبيون فيها بعد وكان العرب بذلك أساتذة لهم .
ثانياً : كان لإضافاتهم المهمة واكتشافاتهم الجليلة أثرها في تقدم علم الكيمياء شوطاً بعيداً .
ثالثاً : كان لهم فضل السبق في جعل علم الكيمياء تجريبيا ولم يقفوا فيه – كما فعل اليونان – عند حد النظريات والآراء الفلسفية .
رابعاً : كما كان لهم دورا أساسيا في تطهير علم الكيمياء من ألاعيب السيمياء (أي العلامات والرموز المعمية المبهمة ) فهم واضعوا أسس البحث العلمي الحق وقويت عندهم دقة الملاحظة وحب الاستطلاع ورغبوا في التجربة والاختبار وأنشئوا لذلك مختبرات خاصة ليتحققوا من صحة بعض النظريات ويستوثقوا من صحتها .
* هذا ما نجده في المنهج التجريبي لدى جابر بن حيان حيث يقول :
( أ ) على صاحب التجربة العلمية أن يعرف علة قيامه بالتجربة التي يجريها .
(ب) على صاحب التجربة العلمية أن يفهم الارشادات فهما جيدا .
(ج) ينبغي اجتناب ما هو مستحيل أو عقيم .
(د) يجب أن يكون المعمل في مكان معزول .
(ه) لابد أن يكون لديه الوقت الذي يمكنه من إجراء تجاربه .
(و) أن يكون صبورا كتوما .
(ز) أن يكون دؤوبا .
(ح) ألا تخدعه الظواهر فيشرع في الوصول بتجاربه إلى نتائجها .
لذلك عرف العلماء العرب بأسلوبهم وتفكيرهم العلمي بما يسمى اليوم “بالطريقة العلمية ” التي يظن أنها من مبتكرات العصر الحديث فمنهم من سار عليها ومنهم من سبق “باكون ” في إدراكها بل من تفوق عليه في إدراك ما لم يدركه “باكون “من عناصر الطريقة العلمية .
* وهذا ما نجده لدى كيميائي العرب الثاني أبو بكر محمد بن زكريا الرازي الذي جاء بعد جابر بقرن من الزمان في كتابه ” سر الأسرار ” أوضح فيه الأسلوب الذي يسير عليه في إجراء تجاربه والذي سمى فيما بعد ” بالطريقة العلمية أو المنهج التجريبي ” ويقوم أسلوبه حسب تعبيره على أربع قواعد :
(أ) الوضوح : وهو ألا أنظر إلى أي شئ بعين الحقيقة إلا بعد أن أدرك أنه كذلك , يعني ذلك أن أتلافى التسرع والتنبؤ ولا أتبنى من الآراء إلا ما تجلى لعقلي بوضوح وسرعة يحولان دون الشك فيه .
(ب) التحليل : تجزئة كل مشكلة من المشاكل التي أقوم بدراستها إلى أكبر عدد ممكن من الأجزاء وذلك للتمكن من حلها على أصلح وجه .
(ج) التدرج : وهو تسيير تفكيري بانتظام فأبدأ بأبسط الأمور وأسهلها فهما وأصعد تدريجيا لمعرفة أكثرها تعقيدا على افتراض وجود النظام أيضا بين الأمور التي لا يتعلق بعضها ببعض .
(د) الإعادة والاستقصاء : القيام بإحصاءات تامة في كل لحظة والقيام بإعدادات عامة لأتأكد من أني لم أهمل شيئا .
ولقد سلك الرازي في تجاربه مسلكا علميا خالصا يتفق مع منهج البحث العلمي الحديث وهذا ما جعل لبحوثه في الكيمياء قيمة دفعت بعض الباحثين إلى القول بأن الرازي هو مؤسس الكيمياء الحديثة في الشرق والغرب معا .
* وسار المعتزلة في أسلوبهم على أساس العقل ووضعوا على ذلك علم البحث والمناظرة . روى الأصفهاني قال :
اجتمع متكلمان . فقال أحدهما : هل لك في المناظرة ؟ فقال : على شرائط ألا تغضب ، ولا تعجب ، ولا تشغب ، ولا تحكم ، ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك ، ولا تجعل الدعوى دليلاً ، ولا تجوز لنفسك تأويل مثلها على مذهبي ، وعلى أن تؤثر التصادق ، وتنقاد للتعارف ، وعلى أن كلاً منا ينبغي مناظرته على أن الحق ضالته والرشد غايته
* ومن الرسالة السابعة من رسائل إخوان الصفاء التي تبحث في الصنائع العلمية ، يتبين أن العرب اتبعوا دستوراً محكماً في البحث العلمي ينحصر في تسعة أحكام أو أسئلة وهي :
السؤال الأول : هل هو ؟ يبحث عن وجدان شيء أو عدمه .
السؤال الثاني : ما هو ؟ يبحث عن حقيقة الشيء .
السؤال الثالث : كم هو ؟ يبحث في مقدار الشيء .
السؤال الرابع : كيف هو؟ يبحث عن صفة الشيء .
السؤال الخامس : أي شيء هو ؟ يبحث عن بعض من الكل .
السؤال السادس : أين هو ؟ يبحث عن مكان الشيء أو عن رتبته .
السؤال السابع: متى هو؟ يبحث عن زمان كون الشيء .
السؤال الثامن: لم هو؟ يبحث عن الشيء المعلول .
السؤال التاسع: من هو؟ يبحث في التعريف للشيء .
وتدل هذه الأسئلة على الاتجاه العلمي الذي كان يسير عليه علماء العرب في بحوثهم وكتاباتهم .
وعلم الكيمياء هذا دخل أوروبا مع أسماء عربية لا تزال باقية في مختلف اللغات الإفرنجية ، كالقلي والبورق والطلق والأنبيق والأكسير والكحول والقصدير والتنور والزرنيخ والدانق والخميرة والغار وأبو القرعة .
واستخدم العرب هذا العلم في الطب ، وهناك الآلاف من المصنفات والرسائل التي وضعها العرب في الأدوية المفردة والأغذية والصيدلة وصنع العقاقير وتركيب الأدوية ، وتنقية المعادن ، وتركيب الروائح العطرية ، ودبغ الجلود وصبغ الأقمشة .
كما اخترعوا الأشربة والكحول والمستحلبات والخلاصات وحتى تغليف الحبوب التي لا يستطيع المريض تناولها لمرارتها أو طعمها غير المقبول .
___ للبحث صلة ___
المقالات »