المقالات »

المعاني والدروس التي نستمدها من الهجرة

بعد غد الجمعة الأولى من السنة الهجرية الجديدة 1439 جعلها الله سنة خير وبركة على الناس اجمعين
إن يوم الهجرة يومٌ أغر محجل ، لا نكتفي بأن نقول إنه كان أول المرحلة الحاسمة في تاريخ الإسلام، بل نقول : إنه فوق ذلك كان بداية دَورٍ جديد وفاتحة عهد جديد في تاريخ البشرية عامة .
تتلألأ في تاريخ الأم والجماعات أحداث ظاهرة باهرة ، ماجدة خالدة , ومن هذه الأحداث في تاريخنا الاسلامي : حادثة الهجرة ، إذ فيه نرى الحق الأعزل يخلص كريماً من بين مخالب الباطل الباطش . ونرى النبوة الراشدة الحليمة تعلو على السفاهة الكافرة ، ونرى القلة المستضعفة المؤمنة تفوز على الكثرة المستبدة الباغية , وليس ذلك كله عمل الإنسان ، ولكنه في بدئه ومختتمه تدبير الرحمن :
ولسنا حين نستلهم أحداث الإسلام الكبرى – كالهجرة وغيرها – عباد أمكنة أو أسرى أزمنة ، ولكننا طلاب قدوة وعشاق أسوة . وليست لفتة المرء منا إلى ماضينا المحشور بالمآثر والمفاخر رجعة إلى الوراء ، أو تعويقاً عن التقدم , ولكنها لفتة المتبصر المستذكر ، المواصل سيره على سواء السبيل .
لقد كانت هجرة محمد ﷺ ثورة ، وأية ثورة :
كانت ثورة على الفساد في العقائد ، والضلال في الأفكار ، والطغيان في الحكم
فإذا بخطوات محمد ﷺ من مكة إلى المدينة تفتح أبواب الخير المطوى في هذا الوجود ، وتطمس معالم الكفر والفجور ، فلا وثنية , ولا إباحية ، ولا كسروية , ولا قيصرية , ولا جاهلية , ولا عصبية ولا حمّية ، ولكن أخوة إيمانية ، وسنة محمدية , وعدالة عمرية ، ومودة إنسانية
{ قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب * قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد } سورة سبأ الآيتين ( 48 – 49 ) .
وكانت هجرة محمد ﷺ مفتاحاً لاستكمال الاتحاد بين المسلمين . وهل هناك مظهر للاتحاد أكرم وأعظم وأقوم من المؤاخاة بين المهاجر والأنصاري ، حتى يرث كل منهما يومئذٍ أخاه ، كما يرث الشقيق الشقيق .
هاجر ﷺ من مكة إلى المدينة وهو قائد الدعوة , ورسول الإنسانية , وحيداً في الصحراء ليس معه جند تحميه ، ولا حرس تمنع عنه الأخطار ، وتصفق له على جنبات الطريق . ولكن ملائكة السماء تحميه وترعاه . ونزل بذلك قرآناً يتلى , إذ يقول رب العرش العظيم في كتابه المكنون :
{{ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول صاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم }} سورة التوبة الآية ( 40 ) .
ونحن الآن أحوج ما نكون إلى هجرة حقه لا نترك فيها أرضنا بل هجرة نترك فيها فرقتنا ، ونترك فيها لهونا , هجرة تتحد فيها الصفوف ، وتتآخى فيها القلوب , ويجتمع فيها الشمل , وتتآزر فيها النفوس . هجرة نترك فيها الضلال إلى الهدى , والغي إلى الرشاد واللامبالاة إلى العمل والجد .
هجرة تبعث فينا من جديد روح الأخوة والوحدة والقوة والمحبة لنكون صفاً واحداً أمام كل من أراد بنا شراً ، أو اغتصب لنا أرضاً ، أو انتهك لنا عرضاً .
ولقد علمتنا الهجرة دروساً ومبادئ يجب أن يسير عليها كل داع إلى الله عز وجل :

* الدرس الأول الذي علمتنا إياه الهجرة هو : أن الهجرة يجب أن تكون لله , وفي سبيل الله ، لا لغرض ، ولا لمرض ، ولا لطلب مغنم ، أو تحقيق مطمح ، أو نيل رغبة ، فإن الله عز وجل يقول في كتابه العزيز : {{ ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ، ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً }} سورة النساء الآية 100 .
ويقول الرسول ﷺ : « إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه » .
* والدرس الثاني الذي علمتنا إياه الهجرة : أن كل دعوة لتنجح ولتفوز لا بد لها من التضحية … لابد لها من الفداء … لابد لها من الإيثار … لابد لها من الشجاعة . فيوم اجتمعت قريش على قتل رسول الله . قال ﷺ لعلي رضي الله عنه : « نم على فراشي وتسجى ببردي هذا الحضرمي الأخضر ، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم » . ويطيع الفدائي ، والشاب الناشئ في طاعة الله . أمر نبيه ، فينفذ الأمر بلا خوف ، ولا رهبة ولا تردد . وحين تهيأ رسول الله ﷺ لصلاة الفجر – وهي الساعة التي كانوا يريدون فيها قتله – مسك حفنة من التراب ونثرها وقال : { وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون } سورة يس الآية ( 9 ) . فكان أن أصبح القوم كلهم نائمين يشخرون بشخير منكر . ولم يستيقظوا إلا بعد أن لفحتهم الشمس بحرها . فدخلوا البيت فلم يجدوا سوى علياً رضي الله عنه , وينزل بذلك قرآناً يتلى يبين للرسول ما بيته المشركون من سوء له بأنهم كانوا يريدون حبسه حتى يموت أو قتله … ولكن الله سلّم … فقال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } سورة الأنفال الآية ( 30 ) .
* والدرس الثالث الذي نستمده من الهجرة :
هو أن المرأة تستطيع أن تؤدي دورها في الملمات والشدائد وهذا ما حدث يوم الهجرة ، وهذا ما حدث بعد الهجرة . ففي يوم الهجرة كانت أسماء رضي الله عنها تجهز الطعام ، وتأتي به خلسة عن عيون الناس إلى الغار غير خائفة ولا وجلة ، محتملة ذلك في سبيل الله عز وجل .
* والدرس الرابع الذي نستمده من الهجرة :
هو أن الله سبحانه وتعالى قد يعين عباده بالسبب الضعيف في نظرهم القوي بفضل الله وقدرته ، وأن الله – كما تعبّر العامة – يضع سره في أضعف خلقه . فهذا رسول الله ﷺ دخل مع صاحبه الغار , ولم تكن تحرسه أمام الغار مدافع ولا طائرات ، ولا جنود ولا معسكرات بل يهيأ الله له كما تقول السيرة من العنكبوت حارساً . { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } سورة العنكبوت الآية ( 41 ) . ويهيأ له من الحمام حارساً وإن الحمام لطير ضعيف أليف ، ليس بذي ناب ولا مخلب .
* والدرس الخامس الذي نستمده من الحجرة :
أن المرء المؤمن إذا أصابته شدة لجأ إلى الله تعالى يدعوه , لأن الدعاء من أسباب النصر . فرسول الله ﷺ عندما خرج من مكة مهاجراً إلى الله دعا الله سبحانه وتعالى فقال : « الحمد لله الذي خلقني ولم أَكُ شيئاً , اللهم أعني على هول الدنيا وبوائق الدهر ، ومصائب الليالي والأيام ، اللهم اصحبني في سفري , واخلفني في أهلي . وبارك لي فيما رزقتني . ولك فذللني . وعلى صالح خُلقي فقومني . وإليك ربي فحببني . وإلى الناس فلا تكلني . رب المستضعفين وأنت ربي . أعوذ وجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض . وكشفت به الظلمات وصلح عليه أمر الأولين والآخرين , أن يُحلّ علي غضبتك , وتنزل بي سخطك . وأعوذ بك من زوال نعمتك . وفجأة نقمتك . وتحوّل عافيتك . وجميع سخطك . لك العُتبى عندي خير ما استطعت ولا حول ولا قوة إلا بك » .
وسار على هذا النهج جميع المسلمين من بعد حيث كانوا يلجئون لله وللدعاء إليه كلما أصابتهم شدة أو مصيبة فيفرج الله لهم ما هم فيه من كرب وشدة .
* والدرس السادس الذي نستمده من الهجرة هو أهمية المسجد :
فالرسول الأعظم ﷺ بادر أول ما وصل إلى المدينة إلى بناء المسجد لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت . ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين ، إن مكانة المسجد في الإسلام تجعله مصدر التوجيه الروحي والمادي : فهو ساحة للعبادة , ومدرسة للعلم ، وندوة للأدب . منه كانت تخرج كتائب المجاهدين ، وفي يتعلم المتعلمون . وفيه يتصل المرء برب العالمين يستمد منه القوة والعزم والعزة ، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين .


تاريخ المقالة:

مصنفة في:

,