المقالات »

الصيام

تحدثنا في مقالة سابقة عن تطور الصيام وتدرّجه كما تدرّجت جميع الأحكام الإسلامية . ففي السنة الأولى للهجرة كان الصيام ثلاثة أيام من الشهر. ثم نزلت آية صيام شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة . وكان الصيام قاسياً حيث أنه لو نام الإنسان قبل المغرب أو صلى العشاء لزمه مواصلة الصيام لليوم التالي .
والناس من الصيام فئات :
* فمن الناس من لا يرى في الصوم أكثر من حرمان لا فائدة منه . وتقليد ديني لا مبرر له . وقد تقدمت الحضارة وتطور الفكر الإنساني بحيث لا يسيغ – في زعمه – هذه القيود الدينية الثقيلة . فهو عازم على الإفطار , مجاهر بذلك , مستهزئ من الصائمين , ساخر بعقولهم وتفكيرهم .
* ومن الناس من لا يرى فيه إلا جوعاً لا تتحمله أعصاب معدته . وعطشاً لا تقوى عليه مجاري عروقه . فهو عازم على الإفطار ، مستخفٍ فيه الناس . متظاهر بالصيام أمام من لا يعرفه . مجاهر به أمام من لا ينكر عليه .
* ومن الناس من يرى في رمضان موسماً سنوياً للموائد الزاخرة بألوان الطعام والشراب . وفرصة جميلة للسمر والسهر واللهو الممتد إلى بزوغ الفجر . والنوم العميق في النهار إلى غروب الشمس . فإذا كان ذا عمل برم بعمله . وإذا كان ذا معاملة ساءت معاملته . وإذا كان موظفاً أو عاملاً ثقل عليه أداء واجبه .
* ومنهم – وهم جمهور المسلمين الصائمين – يرون في رمضان شهراً غير هذا كله , وأجلّ من هذا كله . يرون فيه دورة تدريبية لتجديد معان في نفوسهم من الخُلق النبيل ، والإيثار الجميل والصبر الكريم . والتهذيب الإلهي العظيم .
فالذين لا يرون في الصيام انسجاماً مع تطور الحضارة فنحن نحيلهم إلى أطباء الأجسام والنفوس يحدثوهم عما اكتشفه العلم الحديث من فوائد للصيام لا يجدها الناس في غيره .
وأما الذين تنهزم عزائمهم أمام جوع الصيام وحرمانه وهم مؤمنون بفرضيته وقدسيته . فنحن نذكرهم بأننا نعيش في قلب معركة فاصلة في تاريخ هذه الأمة . وفي هذه الأيام بالذات تمر ذكرى عزوة بدر وفتح مكة . فليس الصيام إلا صبر ساعات على أقل مظاهر الحرمان في الحياة من طعام وشراب فمن انهزم بينه وبين نفسه عن تحمل شدة الصبر ساعات من النهار فسيكون أشد هزيمة بينه وبين أعداءه عن تحمل قسوة الكفاح والنضال أياماً وشهوراً وأعواماً . إن المنهزمين في ميدان صغير ليسوا أهلاً لأن يحرزوا النصر لأمتهم في ميدان كبير . ومن أعلن استسلامه في معركة نفسية تدوم ساعات . فقد حكم على نفسه بفقدان أول خلق من أخلاق المكافحين وهو الرجولة والصبر .
أما جمهور المسلمين الصائمين . وهم الذين نرجو أن ينفعهم الله بالصيام ويثبتهم عليه ويجزل مثوبتهم فيه , فإليهم نقول :
إن رمضان هو الفترة الروحية التي تجد الجماهير والأفراد فيها فرصة لإصلاح تاريخها . إن رمضان ” محطة ” لتعبئة القوى النفسية والروحية والخلقية التي تحتاج إليها كل أمة في الحياة . وكل فرد في المجتمع .
إنه يمنحنا فيما يمنح :
تذكير بالحق الذي تقوم السموات والأرض عليه , وتخلقاً بالقوة التي لا تنتصر أمة بدونها . وشغفاً بالحرية التي لا تتم الكرامة الإنسانية إلا بها .
فالصائم الذي يفهم من صيامه هذا المعنى لا تراه والله إلا مناضلاً في سبيل الحق لا تكن له قناة . قوياً في حلبة الصراع لا ينهزم منه . إن المسلم الصائم طواعية واختياراً وعبودية لله وخضوعاً لجلاله ورجاء للقرب منه والأنس بحضرته . يرى أن قوة الله فوق كل قوة . فهو الحق وما عداه باطل ومنهزم . وإن المسلم الصائم والمتحكم في عواطفه وميوله والمتغلب على شهواته وأهوائه يشعر بأنه يستطيع بتأييد من الله أن يتغلب على أية قوة تريد أن تتحكم فيه .
وهذا ما جعل المسلمون في السابع عشر من رمضان أن يخرجوا يوم بدر وهم قلة ولكنهم صائمون , خرجوا لمجابهة الكفر والشرك وهم يشعرون أنهم ما داموا قد انتصروا على أهوائهم فهم منتصرون على عدوهم . وإن الله الذين صاموا عبودية له وخضوعاً لجلاله لابد مؤيدهم بجند من عنده ونصر من لدنه
[ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين * وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله ] سورة الأنفال الآيتين .
نعم نحن نعتقد أن المسلمين يوم بدر ما أحرزوا النصر لولا أن الصيام بث فيهم من القوة ما جعلهم يخوضون المعركة أقوياء . إن بطشوا بطشوا بقوة الله , وإن رموا رموا بعزة الله , وإن صالوا وجالوا كانت قوة الحق وإشراقة الروح هي التي تسدد لهم الهدف وتدلهم على معاقل الأعداء . [ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ] سورة الأنفال .
إن الذين يستقبلون رمضان على أنه شهر جوع نهاري وشبع ليلي وتلاوة للذكر باللسان ونوم في المساجد في النهار لن يستفيدوا منه . نقول لهم ليس هذا هو الإسلام الذي نزل على محمد
وأما الذين يستقبلونه على أنه مدرسة لتجديد الإيمان وتهذيب الخلق ، وتقوية الروح واستئناف حياة أفضل وأكمل ، فهم الذين يستفيدون منه . وهم الذين تفتح لهم أبواب الجنة في رمضان ، وتغلق عنهم أبواب النيران ، وتتلقاهم الملائكة ليلة القدر بالبشرى والسلام , هؤلاء هم الذين ينسلخ عنهم رمضان ، مغفورةً لهم ذنوبهم ، مكفّرة عنهم سيئاتهم ، مجلوةً بنور الله قلوبهم , مجددةً بقوة الإيمان عزائمهم . هؤلاء هم الذين تصلح بهم الأوضاع ، وتكسب بهم المعارك, وتسعد بهم المجتمعات . وما أحوجنا إليهم اليوم ونحن في قلب المعركة مع الاستعمار والباطل والفساد والانحلال .
* وفي الصوم أيضاً تعويد كريم على الخلق العظيم :
فحين يصوم المرء يذكر أنه عضو من المجتمع ، يجوع كما يجوع الناس ، ويفطر كما يفطر الناس ، يذكر فقرائهم وما يعضهم من جوع ، وينتابهم من بؤس وحاجة ، ولولا الصيام لما ذكر من ذلك شيئاً . ومن هنا كانت نفس الصائم أسمى النفوس وأجودها بالعطاء وأقربها إلى نفوس الناس .
ولقد كان المسلم الأول محمد ﷺ من أجود الناس . ولكنه كان في رمضان كالريح المرسلة سخاءً ونفعاً وإنعاشاً وإنباتاً .
* والصوم عبادة مستورة ، فهو سر بين الإنسان وربه ، لا يكون فيه الرياء ولا الخداع ، ولا يطلب عليه المدح ولا الثناء :
يصوم المؤمن وحسبه من جوعه وخضوعه علم الله به واطلاعه على صدق نيته . وحسبه من الثواب أن يطهر الله نفسه من الخداع والرياء . وأن يُلزم لسانه الصدق والوفاء . يخجل من الكذب والغش والسرقة والغيبة والإيذاء وعدوان الناس في أعراضهم وأموالهم . لأن رسول الله ﷺ قال : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه .
وفي الصوم جوع للبطن ولكنه شبع للروح .
وإخواء للجسم ولكنه تقوية للقلب .
وهبوط باللذة والشهوة ولكنه تصعيد للنفس .
ففي الصوم يجد المؤمن فراغاً لمناجاة الله والاتصال به ، والأنس إليه . كما يجد فيه متسعاً لقراءة كتاب الله الخالد الذي تنفذ أسرار البحر ولا تنفذ أسراره . ويقف الفلك عن دورته ، ولا يقف عن تهذيب النفوس وإصلاح الأخلاق وتطهير الأرواح .
في رمضان يسمع المسلم قول ربه في القرآن يدعوه إلى الخير ويهيب به إلى التقوى ، ويردعه عن الشر ، ويحجزه عن الإثم .
* في رمضان يسمع المسلم نداء ربه أعقاب الليل يقول له :
إلي إلي يا عبدي ، فلطالما أبعدتك الدنيا عني وأنا أقرب إليك من حبل الوريد , ولطالما أيأسك الشيطان من رحمتي , وأنا الذي وسعت رحمتي كل شيء , ولطالما أغراك ما أمددتك به من مال وسلطان وبنين فظننت أنك مستغن عني ، وأنت إن يسلبك الذباب شيئاً لا تستنقذه منه . ولطالما هبطت بنفسك إلى درك الحيوانات وأنا الذي خلقتك لتكون خليفتي في الأرض . تعال إلي يا عبدي لأرفعك إلى مستوى ملائكتي تعيش في عالم من سمو النفس وإشراق الروح وضياء القلب ما يجعلك في الدنيا تعيش في الجنة قبل أن تدخل الجنة .
واسمع إلى حديث رسول الله ﷺ حيث يقول : أتاكم رمضان شهر البركة ، يغشاكم الله فيه ، فيُنزل الرحمة ، ويُحط الخطايا ، ويستجيب فيه الدعاء . ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه ، ويباهي بكم ملائكته ، فأروا الله من أنفسكم خيراً . فإن الشقي من حُرم فيه رحمة الله عز وجل .


تاريخ المقالة:

مصنفة في:

, ,