أولا – مراحل الدعوة في مكة
إن استقراء ما نزل من آيات مكية تتحدّث عن أسلوب الدعوة في مكة ، وكيفية التعامل مع الآخرين ، والتأمل في المسيرة التي انتهجها الرسول وأصحابه في حمل الدعوة والتبشير بالإسلام ، تكشف لنا أنّ الرسول ( ص ) كان يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويتبع أسلوب الحوار الفكري ، والإقناع العلمي ، ولم يستعمل العنف ، ولم يشرع باستعمال القوة في مكة ، رغم ما لاقى هو وأصحابه من أذى واضطهاد ، وفرض للحصار الاقتصادي والاجتماعي عليه ، وعلى أصحابه وأعمامه ، في السنة العاشرة من البعثة . . والقرآن رغم كل ذلك أمر النبي محمداً (ص) بالصبر والتحمل ، وفتح الآفاق النفسية ، وشرح الصدر ، واللجوء إلى أسلوب الحوار العلمي ، والإقناع المنطقي لهداية الناس ، وإصلاحهم . . فهو نبي جاء بالهدى والإصلاح ، وليس متسلطاً يخضع الناس بالقوّة والإرهاب .
ولكي يتّضح أسلوب الدعوة ، ونمط الخطاب فلنقرأ بعضاً من النصوص القرآنية التي حدّدت موقف الرسول (ص) من الأذى والعدوان والاضطهاد والإرهاب الذي استعمل ضدّه وضد أصحابه ، وضد مَن يستمع إلى خطابه ودعوته . . قال الله تعالى :
* (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) النحل / 12.
* (ولا تستوي الحسنة ولا السيِّئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأ نّه ولي حميم وما يلقاها إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظ عظيم ) فصلت / 34 ـ 35.
* (قل إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) سبأ / 24.
* ( .. لكم دينكم ولي دين ) الكافرون / 6.
* (أولئك يؤتون أجرهم مرّتين بما صبروا ويدرأون بالحسنة السيِّئة ومما رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ) القصص / 54 ـ 55.
* (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون * فاصفحْ عنهم وقل سلام فسوف يعلمون ) الزخرف / 88 ـ 89.
* (وما خلقنا السّموات والأرض وما بينهما إلاّ بالحقّ وإنّ الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل ) الحجر / 85.
* (وعباد الرّحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) الفرقان / 63.
* (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون * من عمل صالحاً فلنفسه ومَن أساء فعليها ثمّ إلى ربّكم ترجعون ) الجاثية / 14 ـ 15.
* (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إنّ الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً ) الإسراء / 53.
* (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً ) المزمل / 10.
* (فاصبر صبراً جميلاً ) المعارج / 5.
(فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرُّسُل .. ) الأحقاف / 46.
وهكذا نجد القرآن يثبت منهج الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة . . إنّه يدعو إلى الحوار والتفاهم إذ يقول:
* (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة .. ).
* (وجادلهم بالتي هي أحسن ) .
* (قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ) .
* (إنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين .. ) .
إنّه لم يتهم الطرف الآخر ولم يستفزه ، بل دعا إلى رحلة حوار للبحث عن الحقيقة ، ليعرف الطرفان أين الحق والصواب . . بل ويتخذ أسلوباً سلمياً آخر حينما يقول لهم : (لكم دينكم ولي دين ) .
إنّه يدعو الآخر إلى التعايش ، وإن لكل دينه وعقيدته وليدع كل منهما بدعوته ، وليتحمل مسؤوليته ; فالإنسان الذي يستعمل عقله وضميره وحسّه الأخلاقي . . سيكتشف أين الحقيقة . . فإنّه مطمئن إلى انتصار منهج العلم والعقل . . ويتسامى منهج الدعوة ونمط الخطاب وأخلاقية الإنسان الحامل للدعوة الإسلامية ، يتسامى بالدعوة إلى الصبر والتحمل ، وعدم استعمال الرد والعنف . . جاء ذلك في قوله تعالى :
* (واصبر على ما يقولون ) .
* (فاصبر صبراً جميلاً ) .
* (فاصبر كما صبر أولو العزم من الرُّسُل ) .
ثمّ ينتقل إلى مرحلة أخلاقية أسمى من مراحل المنهج الأخلاقي والسلوكي فيدعو إلى المغفرة والصفح الجميل . .
* (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيّام الله ) .
* (فاصفح عنهم وقل سلام ) .
* (فاصفح الصفح الجميل ) .
* (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) .
ويتسامى منهج الدعوة في التعامل والخطاب إلى موقع أعلى فينادي بمقابلة الإساءة بالإحسان ، لرفع الحواجز النفسية والفكرية ، وتوفير الأجواء والظروف الكافية لفتح العقول والقلوب على مبادئ الحق والإيمان . . يتضح ذلك من قوله تعالى :
* (إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأ نّه ولي حميم ) .
ثمّ يسترسل في الثناء على هذا الأسلوب في الدعوة فيوضح أنّ الذين يرتقون إلى هذا المستوى هم ذوو حظ عظيم ، وأصحاب إرادة وصبر جميل . . (وما يُلَقّاها إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظ عظيم .. ) .
إنّه الصبر والعفو والصفح والسلام ، ومقابلة الإساءة بالإحسان . . ذلك منهج القرآن في دعوته ، وتلك سيرة رسول الله (ص) العملية في الدعوة وتبليغ الرسالة ، ولكنّ الأشرار لم يستجيبوا لكل ذلك ، فواجهوه وأصحابه بالعنف والإرهاب والقتل والتعذيب والحصار والحرب النفسية والإشاعات والتهم الباطلة . . ومع ذلك صبر وغفر . ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ هذه الآيات ، وإن نزلت في مكة ، ورسمت أسلوب الدعوة في تلك البيئة والظروف ، إلاّ أن تلك الآيات لم تنسخ ، ولم تفقد دورها كأسلوب وطريقة في نشر الدعوة الإسلامية ، وإنّ ما جاء من آيات الجهاد كان لردع الطغيان والفساد وحماية حريّة الفكر ، والدفاع عن الحق والعدل والهدى ، وليست أسلوباً ناسخاً لما جاء في هذه الآيات وأمثالها . .